روى الإمام الطبراني وأبو نعيم في كتاب “معرفة الصحابة” عن خوات بن جبير قال: [نزلْنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ الظَّهرانِ، قالَ: فخرجتُ من خِبائي، فإذا نسوةٌ يتحدَّثْنَ فأعجبَنني، فرجعتُ فاستخرجتُ عَيبتي فاستخرَجْتُ مِنها حُلَّةً فلبستُها، وجئتُ فجلستُ معهنَّ. فخرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: أبا عبدِ اللَّهِ! فلمَّا رأيتُ رسولَ اللَّهِ هبتُهُ واختلطتُ، قلتُ: يارسولَ اللَّهِ جملٌ لي شرَدَ وأنا أبتغي لهُ قيدًا، فمضى واتَّبعتُهُ، فألقى إليَّ رداءَهُ ودخلَ الأراكَ ـ كأنِّي أنظرُ إلى بياضِ متنِهِ في خُضرةِ الأراكِ ـ فقضى حاجتَهُ وتوضَّأَ، وأقبلَ والماءُ يسيلُ من لحيتِهِ، فقالَ: أبا عبدِ اللَّهِ ما فعلَ شِرادُ ذلكَ الجمَلِ؟! ثمَّ ارتحَلنا فجعلَ لا يلحقُني في المسيرِ إلَّا قالَ: السَّلامُ عليكَ أبا عبدِ اللَّهِ! ما فعلَ شرادُ ذلكَ الجملِ؟! فلمَّا رأيتُ ذلكَ تعجَّلتُ إلى المدينةِ واجتنبتُ المسجِدَ ومجالسةَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فلمَّا طالَ ذلكَ تحيَّنتُ ساعةَ خَلوةِ المسجدِ، فخرجتُ إلى المسجدِ وقمتُ أصلِّي، وخرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مِن بعضِ حُجَرهِ فجاءَ فصلَّى ركعتينِ خفيفتينِ، وطوَّلتُ رجاءَ أن يذهبَ ويدعَني. فقالَ: طوِّلْ أبا عبدِ اللَّهِ ما شئتَ أن تطوِّلَ فلستُ قائمًا حتَّى تنصَرِفَ. فقلتُ في نفسي واللَّهِ لأعتذرنَّ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فلمَّا انصرفتُ قالَ: السَّلامُ عليكَ أبا عبدِ اللَّهِ! ما فعلَ شرادُ ذلِكَ الجملِ؟! فقلتُ: والَّذي بعثَكَ بالحقِّ ما شردَ ذلكَ الجملُ منذُ أسلَمتُ. فقالَ: رحِمَكَ اللَّهُ ثلاثًا.. ثَمَّ لم يعُدْ لشيءٍ ممَّا كانَ].
هكذا كان صلوات الله وسلامه عليه في دعوته للعاصين والمخطئين والمذنبين ـ الأخذ بيد العاصي، يستر عورته، ويقيل عثرته، ويعينه على شيطان نفسه.. لا يعنف، لا يعير، لا يجرح، ولا يثرب، بل ولا يواجه الإنسان بخطئه ـ طالما الأمر لا يحتاج لذلك.. وإنما نصح يصحح الطريق، ويقيم المعوج، ويرد الشارد؛ في أدب جم، وذوق رفيع.
روى الإمام أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه: [إنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أُتِيَ برجلٍ قد شرِبَ الخمرَ، فقالَ اضرِبوه.. فمنَّا الضَّاربُ بيدِه، والضَّاربُ بثوبِه، والضَّاربُ بنعلِه، ثمَّ قالَ: بَكِّتوه. فأقبلوا عليهِ يقولونَ: ما اتَّقيتَ الله، ما خشيتَ اللَّهَ، وما استحييتَ من رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؟ فقالَ بعضُ القومِ: أخزاكَ اللَّهُ. قالَ: لا تقولوا هَكذا، لا تعينوا عليهِ الشَّيطانَ، ولَكن قولوا: اللَّهمَّ اغفر لَه اللَّهمَّ ارحمْهُ].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أيضا قال صلى الله عليه وسلم: [إذا زنت أمةُ أحدِكم فتبيَّن زناها فليجلدْها الحدَّ ولا يُثربْ عليها، ثم إن عادت فزنت فتبيَّن زناها فليجلدْها الحدَّ ولا يُثربْ عليها، ثم إن عادت فزنت فتبيَّن زناها فليبعْها ولو بضفيرٍ من شعرٍ. يعني : الحبلَ].
إن تصحيح الأخطاء لا يلزم منه التثريب والفضح والتشهير، والقذف، وتعرية المخطئ قبل إرشاده وتوجيهه، إنما أجمل منه الستر والصفح والنصح بالمعروف مع تمام الرفق ومراعاة نفسية المبتلى والمخطئ.
لقد كان صلوات الله عليه وسلامه يبلغه القول أو الفعل عن الإنسان يعرفه فلا يذكر اسمه، ولا يشير إليه بما يدل عليه، وإنما يقول: [ما بال أقوام يقولون كذا وكذا]؟!.. منعا للتشهير بهم، ورفعا للحرج عنهم .. وهذا نوع من الإحسان يحقق المقصود ويكون أدعى للقبول.
الله تعالى يحب الستر
[إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر] (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
فهو يحب من العبد إذا أخطأ أن يستر نفسه ويتوب، وإذا رأى أخاه على معصية أو ذنب أن يستره ويدعوه للتوبة.. ولولا محبته للحياء والستر لكشف أهل المعاصي وفضحهم، ولرأى الناس من بعضهم العجب العجاب.
وهو الحيي فليس يفضح عبده .. .. عند التجاهر منه بالعصيان
لكــنه يلــقي علــيه بســـتره .. .. فهو الستير وصاحب الغفران
والشريعة الإسلامية متشوفة للستر وداعية إليه ومرغبة فيه:
عن ابن عباس رضي لله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَن سترَ عورةَ أخيهِ المسلمِ سترَ اللَّهُ عورتَهُ يومَ القيامةِ، ومَن كشفَ عورةَ أخيهِ المسلمِ كشفَ اللَّهُ عورتَهُ حتَّى يفضحَهُ بِها في بيتِهِ]. (رواه أبو داود وصححه الألباني).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ]. وفي الصحيح: [ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة].
غير أن هذا الستر متعلق بمن كان مستورا في نفسه فكبا به جواده، أو أدال عليه شيطانه، فمثل هذا يستر ولا يفضح ولا يعير ويغطى عيبه و تخفى هنته.
أما من كان منهمكا في المعاصي مشهورا بالأذى والفساد، لا يزيده الستر إلا طغيانا؛ فقد قال النووي والأئمة من العلماء الكرام: “فمثل هذا يستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر؛ لأن الستر عليه يطمعه في الأذى و الفساد، وانتهاك المحرمات، ويجرئ غيره على مثل فعله”.
إن هؤلاء المجاهرين من أبعد الناس عن العفو، ومن أحق الناس بالعقوبة في الدينا والآخرة كما في الحديث: [كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ].
إيها الإخوة.. أيها الدعاة.. أيها الآباء.. أيها المربون.. إلى كل من يملك ناصية التوجيه، ويتصدى للتربية أو التعليم:
إن التقريع والتشويه والتثريب والفضح، ودوام التعيير والتذكير بالأخطاء والزلات تباعد بين المربي ومن يربيه، وبين الداعي ومن يدعوه، وتصنع نوعا من الجفاء الذي يصم الآذان عن سماع النصح وقبول الحق واتباعهما.
وكم من إنسان نفر قلبه غاية النفور، وتحول إلى حال أسوأ بكثير مما كان عليه، وربما تحول إلى عدو للدين أو لمن ينصحه بسبب الأسلوب الخاطئ في المعالجة.
إن طريق النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الطرق، وسلوكه في تصحيح الخطأ وتوجيه المخطئ هو أمثل المسالك، فليس أعظم سبيلا من الرفق، ولا طريقا من الستر. مع تمام الشفقة والرحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159).