الدعاء عبادة من أعظم العبادات، وأجَلِّ الطاعات، وقد أمرنا الله تعالى بالدعاء، ووعدنا بالإجابة فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر:60). قال ابن كثير: “هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه، أنه ندب عباده إلى دعائه، وَتَكَفَّلَ لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: يَا مَنْ أحبُّ عِبَادِهِ إليه من سأله فأكثر سؤالَه، وَيَا مَنْ أَبْغَضُ عِبَادِهِ إليه من لم يسأله، وليس كذلك غَيْرُكَ يَا رَبِّ. رواه ابن أبي حاتم. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يَغْضبُ إِنْ تركْتَ سُؤَالهُ وَبُنيُّ آدمَ حِينَ يُسألُ يَغْضَب.
وقال أبو سليمان الخطَّابي: “ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربَّه عز وجل العناية، واستمداده إيَّاه المعونة، وحقيقته إظهارُ الافتقار إليه، والتبرُّؤ من الحول والقوَّة”.
والدعاء لا يكون إلا لله تعالى وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ـ سواء كان هذا الغير نبيًّا، أوْ وليًّا، أوْ صالحا، أوْ مَلَكَاً ـ من الأمور الشركية التي ينبغي الحذر منها، قال الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(يونس: 106- 107). وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13)، قال ابن تيمية: “ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يُدْعَى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم”.
ومِن الأقوال والمُعْتَقَدات والشُبه التي تعلق بها من يدعون أو يستشفعون بالأنبياء والأولياء والصالحين من الأموات قولهم: نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء حاجاتنا من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، وذلك لصلاحهم وعلو مكانتهم ومنزلتهم عند الله. وهذا القول والمُعْتَقد هو عين ما قاله المشركون من قبل في تسويغ ما هم عليه من دعائهم وعبادتهم لآلهتهم، وقد سمَّاهم الله عز وجل مشركين، وهذا القول والمٌعْتَقد الفاسد الذي ـ يتناقض مع التوحيد ـ باطل، والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1 ـ قال الله تعالى: {أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(الزُّمر:3). قال ابن كثير: “قال قتادة في قوله: {أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} شهادة أن لا إله إلا الله. ثم أخبر تعالى عن عُبَّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي: إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المُقرَّبين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة.. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وقد جاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه.. وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى”.
2 ـ قال الشوكاني: “وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره، {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}(الجن: 18)، {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ}(الرعد: 14)”.
وقال ابن القيم في “مدارج السالكين”: “ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، فضلاً عمَّن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده”. وقال ابن تيمية: “وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح”.
3ـ طلب الدعاء من الحي جائز لأنه من جنس الأسباب الحسية المعلومة التي أقدره الله عليها، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: (قَدِمْتُ الشَّامَ، فأتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاء في مَنْزِلِهِ، فَلَمْ أَجِدْه وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْداء، فقالتْ: أَتُرِيدُ الحَجَّ العَام؟ فَقُلتُ: نعمْ، قالتْ: فادْعُ اللَّهَ لنا بخَيْر، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: دَعْوَة المَرْءِ المسلم لأَخيه بظَهْر الغيْب مُسْتجَابة، عِنْدَ رَأْسِه مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دعا لأخيه بخَيْر، قال المَلَكُ المُوَكَّل به: آمِينَ، ولَكَ بمِثْل) رواه مسلم. وهذا بخلاف طلب الدعاء أو الشفاعة من الميت، فإن الأسباب قد انقطعت عنه، فطلب الدعاء والشفاعة من ميت ـ وإن كان نبياً أوْ وليّاً أوْ صالحاً ـ هو طلب من شخص غير قادر على الإجابة، وهذا من الشرك بالله. فالأصل أن الميت لا يسمع لأنه مات، فبطل سمعه وبصره وكلامه بذهاب روحه، لكن يُستثنى من ذلك ما ورد فيه الأحاديث الصحيحة، وقد سُئِل الشيخ ابن عثيمين: ما هو الراجح في سماع الموتى؟ فأجاب: “الراجح ما جاءت به السُنَّة، وهذا ثابت وليس فيه إشكال كما في الحديث: (إن الإنسان إذا انصرف عنه أصحابه بعد دفنه يسمع قرع نعالهم)، وكما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على القتلى في قليب بدر يؤنبهم، ولما قال الصحابة: (يا رسول الله! كيف تكلم هؤلاء؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، ومثلما جاء في الحديث أيضا: (ما من مسلم يسلم على قبر يعرفه في الدنيا إلا رد الله عليه روحه فردَّ عليه السلام)، وإلا فالأصل أنهم لا يسمعون، لأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم، لكن ما جاءت به السُنة لابد من الإيمان به.. لكن على فرض أنهم يسمعون فإنهم لا ينفعون غيرهم، بمعنى أنهم لا يدعون الله لهم، ولا يستغفرون الله لهم، ولا يمكنهم الشفاعة لهم”.
وقال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(فاطر:14)، “أي إن تستغيثوا بهم في النَّوَائِبِ لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع، إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. {وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرءون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}(المائدة:116)”.
وقال ابن تيمية: “فأما مجيء الإنسان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره وقوله: استغفر لي، أوْ سَلْ لي ربك، أو ادعو لي، أو قوله في مُغيبه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي، أو استغفر لي، أو سلْ لي ربك كذا وكذا، فهذا لا أصل له ولم يأمر الله بذلك، ولا فعله واحد من سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة، ولا كان ذلك معروفا بينهم”.
وقال ابن عثيمين في تعليق له على كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم”: “سؤال الميت أن يسأل الله أو سؤال قضاء الحاجة بينهما فرق، إذا سأل قضاء الحاجة فهذا شرك أكبر، وإذا سأل أن يسأل الله فهذا بدعة وضلالة، لأن الميت إذا مات انقطع عمله، والدعاء من عمله، فكيف تسأله ما لا يمكن، فإذا جئت إلى ميت وقلت: ادع الله لي، فإنه لن يدعو الله لك، ومن ذلك تقول عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم: اشفع لي، فإن هذا حرام وبدعة منكرة، لكن إذا قلت: يا رسول الله أنجني من النار، كان شركا أكبر”. وقال ابن عبد الهادي المقدسي الحنبلي: “أما دعاؤه هو صلى الله عليه وسلم، وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته، فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين ـ لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ـ”.
الميت فارق الدنيا، وأفضى إلى ما قدَّم، وهو مُرْتَهَنٌ بعمله، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن ثم فطلب الدعاء والشفاعة منه، صورة من صور وأفعال الشرك بالله، والحكم على العمل أنه شرك لا يعني بالضرورة أن فاعله أصبح كافراً أو مشركاً، فالحكم على الفعل شيء، والحكم على الفاعل شيء آخر، وليس كل من وقع في أفعال وأقوال الشرك والكفر، وقع الكفرُ والشركُ عليه، إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وذلك لاحتمال أن يكون جاهلاً بهذا الأمر لا سيما في هذا الزمان.