بقدر ما يُنفق أهل الكفر من البوذيين والنصارى واليهود وغيرِهم – فضلاً عمّن ينتسبون إلى الإسلام من القبوريّين- الآلاف المؤلّفة في تشييد معابدهم وكنائسهم، ويزخرفونها بالذهب الخالص وبأنفس الجواهر، ويتقنون بناءها ويشيّدونها على أساس خرسانيٍّ متين، بقدرِ ذلك كلّه، بقدرِ ما يكون بنيانُه رخيصاً رديئاً لا قيمةَ له، ولا يزن عند الله جناح بعوضة.
ولو كان الشرك بناءً معماريّاً لكان بناءً على شفير هاويةٍ، مفكّك الأوصال واهن الأركان، لا يرتضي أحدٌ سكناهُ، هذه هي الأوصاف الحقيقية التي تقرّرها النصوص الشرعيّة بياناً لحقيقة الشرك وآثارِه ونتائجه.
ولعل من أبرز الأوصاف الخاصّة بالشرك، وصف الآية القرآنية له وتمثيلِه ببيت العنكبوت، وهو الأمر الذي يستنهض الهمّة ويقدح الأسئلة عن سرّ ربطِه بالعنكبوت، وما هو القاسم المشترك بينهما، وما ملامح الدقّة في ربطِ المثل بهذا المخلوق؟
هي إذن محاولةٌ لفهم حقيقة الشرك من خلال الوصف القرآني له في قولِه سبحانه وتعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:41).
تعلّق قلبي
قام في نفسِ كلِّ من دعا أحداً من دون الله عز وجل، أن هذا المعبود له من الخصائص التي صارَ بها قادراً على فعلِ ما هو مطلوب، وكشفِ ما هو مرهوب، ولأجل ما قام في نفوس هؤلاء، تعلّقوا وجدانياً بهذه الأصنام والأوثان في الشدائد والبليات، والمصاعب والمشكلات، وغاب عن أذهانهم تفرّد الله سبحانه وتعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، وتناسوْا العقيدة الصافية التي احتوتْها الوصيّة النبويّة الغالية: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) رواه الترمذي.
وهذا ما يفسّر استماتة من وقع في الشرك في التعلّق بالمعبود الباطل، فهو شخصٌ قد جرّد حبّه وخوفه لمعبوده، وذلّته له، واستعانته به، ولجوؤه إليه، وتوكّله عليه، واستغاثته به، وغابت عنه حقيقة التوحيد المتطلّبة لإخلاص العبادة لله دون ما سواه.
والحقيقة التي غابت عن أذهان أهل الشرك، أن من يدعونهم من دون الله ليست لهم من خصائص الربوبيّة شيء، فلا يملكون كشف الضرّ عن أحد، ولا يستطيعون فعل الخير أو جلب النفع، بل كل ما يُدعى من دون الله غيرُ قادرٍ على إفادةِ نفسه هو،فكيف يفيدُ غيرَه، أم كيف ينصرُ من يستغيث به؟ ولذلك كان توضيح هذه المسألة في العديد من المواطن في القرآن وفي السنة، فنجد على سبيل المثال قولَه تعالى: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} (الفرقان:3).
وتطالعنا السنة النبوية كيف ندّد النبي –صلى الله عليه وسلم- بأصحاب هذه العقليّة الساذجة التي تتعلّق بالضعيف الفقير، وتنسى القوي الغني –سبحانه وتعالى-، ويتمثّل ذلك في الحوار الشيّق الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام ووالد عمران بن الحصين قبل إسلامه، حيث قال له: (يا حصين، كم إلها تعبد اليوم؟) فقال: “سبعة في الأرض، وإلها في السماء” قال: (فإذا أصابك الضر من تدعو؟) فقال: “الذي في السماء”، قال: (فإذا هلك المال من تدعو؟)، فقال: “الذي في السماء”، فقال عليه الصلاة والسلام: (فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه؟) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد.
أوصاف بيت العنكبوت
عند مطالعة بيت العنكبوت ودراسة خصائصه، وتأمّل بنيانه، يمكن لحظ النقاط المشتركة بينه وبين الشرك، وذلك في:
-القدرة على الوقاية: بيت العنكبوت ليست له خصائص الوقاية من العوامل الجويّة المختلفة كالحرّ والبرد، بخلاف غيرِها من البيوت كبيوت النمل أو النحل وما سواهما، كذلك الشرك، لا يحمي صاحبَه في حقيقة الأمر ولا يرفع عنه ضرّاً حلّ به، أو يقيه من شرّ يتوقّع حصولَه.
-الليونة والهوان: بيت العنكبوت رقيق جداً، خيوطه لا تكاد تقدر على التماسك، وأدنى نسمة من الهواء كفيلة بتحطيمِه فضلاً عن زخّات المطر، ثم يضطرّ العنكبوت إلى إعادة بنائه مرّاتٍ ومرّات، وكذلك الشرك، إنما هو لجوءٍ إلى ما ليس بسببٍ، فلا يمكن أن يتّخذه صاحبُه وسيلةً صحيحة للوصول إلى مقصودِه، مهما قدّم القرابين أو بالغ في النذور الشركيّة، فلن يرجع من ذلك كلّه إلا مفلس اليدين.
-الدور والهدف: بيت العنكبوت ليست للسكنى فحسب، ولكنها في حقيقة الأمر مصيدةٌ للفرائس من الحشرات ونحوها، يتغذّى بها العنكبوت، وليست له وسيلة مباشرةٌ للاصطياد كما عند غيرِها، وكذلك الأولياء من دون الله من السحرة والكهنة ونحوهم، يوهمون السذّج والعوام بقدرتهم على تحقيق المطالب وفعل المعجزات ابتزازاً لهم حتى يحصلوا على المكانة والسمعة، والمال والنفوذ.
-انتظام لا قيمة له: خيوط بيت العنكبوت منتظمة الشكل على نحوٍ دقيق يثير الإعجاب، ورغم دقّته إلا أن حقيقته التي لا تتخلّف عنه: الوهن والضعف، فهو جمال ملفتٌ للنظر سريع الزوال، وكذلك الشرك، قد يظهرُ لأتباعه انتظامُه وفق قواعد منطقيّة وأساس عقلي متين، لكنه في الواقع يحملُ في باطنِه ما يبيّن بطلانه وضلالَه، ويظهر ذلك بالنقد السليم لما زعمه الأولياء من الحجج والبراهين التي لا تصمد أمام الحق الناصع.
-الوهن الداخلي: يذكر علماء الطبيعة كلاماً كثيراً حول الهوان الداخلي الاجتماعي –إن صحّ التعبير- في الأسرة العنكبوتيّة!، فأنثى العنكبوت تقتل زوجها بعد قيامِه بالتلقيح، والأبناء يأكلون بعضهم بعضاً بعد الخروج من البيض، كذلك أهل الشرك ليسوا على كلمةٍ سواء، وبينهم من الصراعات والخلافات حول تقاسم النفوذ الشيء الكثير.
وبهذا يتّضح للمسلم عظم ما هو عليه من التعلّق القلبي بالله تعالى، لعلمه بأن مقادير السماوات والأرض بيديه، فهو متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، لقوّتها وثباتها.