الموسوعة الإسلاميّة” من مُغامرات العقل الغربي في درْس ظواهر الثقافة الإسلاميّة، منذ نشأتها إلى الآن، بمنظورٍ وضعي، أو هذا ما يوهِم به ويروّج له. تشمل هذه الدائرة جلَّ المفاهيم والأعلام والأمكنة والمؤسسات التي ظهرت في ظل حضارة الإسلام ، بمختلِف المناطق الجُغرافية، أكانت ناطقة بالضاد أو بغيرها. قِيدت المغامرة بنفس طويلٍ، ولم تنقطع “هيئتُها” عن تنقيح موادها وتحيينها منذ قرنٍ. فهل لهذا الاهتمام من دوافع ما وراء-علميّة أم إنه مجهود صادقٌ لفهم الظاهرة الإسلامية في وُعورته؟
استمرّ العمل على الطبعة الأولى من 1913 إلى 1938. وصدرت كرّاساتها مُنَجَّمةً باللغات الإنكليزية والفرنسيّة والألمانية لدى دارَي النشر بريل (هولاندا) وبيكار (فرنسا)، بإشراف المستشرق مارتين-تيودور هوتسوما (1851-1943)، عضو الأكاديمية الملكية بهولندا. ثم طُبعت ثانيةً، ما بين سنتيْ 1954 و2005، حيث صدرت بالفرنسية والإنكليزية فقط، ضمن طبعةٍ مشتركة عن بريل وميزون-ناف لاروز. ووصلت أجزاؤها إلى اثني عشر، أضيفت من خلالها مئاتُ المداخل ونقِّحَت موادها القديمة وحُيِّنت على ضوء ما استجدّ في مجال الإسلاميا. وأضيفت إليها ملحقاتٌ وفهارس لتيسير الوصول إلى موادها. ومنذ سنة 2007.
بُدئ العمل على طبعةٍ ثالثة تصدر على الشبكة الرقمية. هذا وقد أنجزت منها صيغةٌ مُختصرة، اقتَصَرت على المواد العقديّة والفقهية.
وبعد إصدارها باللغات الأوروبية الكبرى، تُرجمت هذه الموسوعة إلى اللغات العالمية الأخرى ومنها العربية (طبعة أولى في 1969 وطبعة ثانية في 1998) إضافة إلى التركية والفارسية والأردية.. وغيرها لتعميم فائدتها، إذ لاقت استحسان السّلط الثقافية الرسمية، في بلاد الإسلام، رغم بعض المآخذ عليها.
وتهدف هذه “الدائرة” الضخمة (أكثر من ثلاثة عشر ألف صفحة) إلى حصر المداخل التعريفية التي تشكّل نسيج الثقافة الإسلامية، بالمعنى الألماني للكلمة الذي يحيلُ على مجموع المنتجات المادية والذهنية لحضارةٍ ما. وقد رُتبت المواد فيها حسبَ الألفباء اللاتيني، حيث تنسخ المفردات العربية بحروفه، وَفق مُقابلات إملائية بين أحرف اللغات الإسلامية ونظائرها الأوروبية. فمثلاً، تكتب كلمة “خلافة” هكذا “Khilāfa”، وتوضع مادتها في باب “K”. ومع أنّ النسخ إجراءٌ شكليٌّ، فإنّه مثَّل حاجزاً حقيقيّاً أمام مستعملي الموسوعة.
قد أوكلت كتابة مقالاتها إلى أكبر المتخصصين العالميين في أي موضوع، والذين أنتجوا عنه دراساتٍ مُعترفاً بها. ولئن كان تحرير مواد الطبعة الأولى مقتصراً على المستشرقين (الأوروبيين والأميركيين)، فإن بعض مواد الطبعة الثانية حررها البحّاثة المسلمون، ولكن أولئك الذين يقاسمون زملاءَهم الغربيين نفسَ النظرة النقدية والتاريخية لتاريخ الإسلام، لا العلماء التقليديين، الذين لا يُعتدّ بعِلمهم، عند هيئة الموسوعة، لانطلاقهم من موقفٍ إيمانيّ.
وتحترم بنية المقال بروتوكولاً منهجياً واحداً ينطبق على آلاف المداخل التي تتألف منها الموسوعة. يبدأ الباحث باستعراض المعنى اللغوي الأصلي للمفهوم المشروح وما جاء عنه في أمهات اللغة والشعر الجاهلي والنص القرآني، ثم يتابع ما طرأ عليه من تحوّلات مفاهيمية في أهم المدوّنات. ويُختم المقال بقائمة المصادر والمراجع المعتمدة، مهما كانت لغتُها.
ويتسم أسلوب الكتابة بغلبة المنحى النقدي، بحيث ترد المواد مدققةً، بعد أن تخضع إلى عديد المراجعات المضمونية والشكلية، مع اتباع المنهج الاستشراقي بمختلف مدارسه الفيلولوجية والتاريخية والوصفية، مع تحاشي التأويلات الاجتماعيّة. ذلك أنَّ أسلوب الكتابة يعكس الرؤية المعرفية التي يطرحها الغرب عن الإسلام. ولا تشكّل هذه الرؤية تأويلاً خاطئاً أو صحيحاً عنه، كما ذكر ر. ستيفين في “التاريخ الإسلامي” (1991) بقدر ما تطرح أسئلة تختلف عما يطرحه المسلمون على أنفسهم.
وهو الأمر الذي أثار بعض الانتقادات لدى الأساتذة المسلمين مثل إبراهيم عوض الذي فند في كتابه: “دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أباطيل وأضاليل”، (1998) العديد من أطروحاتها الخاصة بالقرآن والسيرة النبوية والعقائد ومسائل الفقه وحتى اللغة، واضعاً اليد على مئاتٍ من الأخطاء رتبها حسب محاور سبعةٍ.
وعندما كُتبت مقالات “الموسوعة”. لم يُعتمد فيها على الأبحاث العربية باعتبارها لا تستجيب، في نظرهم، لشروط البحث العلمي ولا تستحق الاعتماد عليها.
كما غلبت فيها النزعة الرّيبية التي تُنكر الظواهر وتصرّ على نَفيها دون حججٍ مقنعة ولا أدلة حقيقية، بل يصير ذلك النفي نفسه مصادرة لا تقبل التشكيك وعليه يبنى سائر الاستنتاج، ومن ذلك نفي الوحي واعتبار النبي “محرراً” للقرآن. ذلك أنّ “دائرة المعارف الإسلامية” كُتبت من منظورٍ وضعي صرفٍ، لا يقر بمسلمة سماوية الإسلام ولا يؤمن به ديناً موحًى. وهذه المؤاخذة تشمل أكثرَ المقالات الخاصة بالعقائد كمفاهيم الألوهية والقرآن والنبوة، ولا تخصّ المداخل ذات الطابع التاريخي والحضاري. ويتمثل المأخذُ في ردّ الظواهر الإسلامية إلى التراث اليهودي-المسيحي واعتبارها مجرد تقليدٍ متناسل من رَحِمه.
ويضاف إلى ذلك تغييب المقارنات الإناسية، التي نضجت ضمن العلوم الإنسانية، والاقتصار على المنهج الفيلولوجي كما لو كانت هذه الموضوعات محاور جامدة تأتي من تاريخ ميت وحضارةٍ منقرضة. علاوةً على تعليل مبادئ الإسلام ومنتجاته بالاقتراض من الثقافات الرومانية والفارسية والسريانية، بل وردِّ جملة المفردات الدينية إلى اللغات الأخرى كالآرامية والعبرية رغم أنَّ تلك الكلمات عربية صيغةً ومعنًى، وأنّ اشتراك هذه اللغات أمر طبيعي، ولا داعي للقول باقتباس لغةٍ من الأخرى ما لم يقم دليلٌ قاطع.
أرادت هذه الموسوعة أن تكون الخطاب الأعلم عن الإسلام والصيغة الأكثر موضوعية عنه. وُفّقت في تطلعها إلى حدٍّ، وفشلت حين طغت وجهة النظر التاريخانية على سائر الأبعاد المعقدة للتجربة الدينية، كما فشلت حين لم تنخرط في فهم الظواهر المدروسة واكتفت بوصفها وصفاً بارداً، لا يفي بكل أبعادها.
وقد كان يقال لنا، طلبةَ العربية في مدارج الجامعات الفرنسية: “لن يخيب أبداً أملُ الـمُطالع للموسوعة الإسلامية حول موضوعٍ ما”. قد تصحّ هذه الملاحظة على المسالك التي تفتحها والببلوغرافيا الجادة التي تقترحها. فالدائرة أداةٌ رئيسية ولكنها غير بريئة ولا كافية، لأنها تعبر عن مصادرات الفكر الاستشراقي الذي بلغ في هذه الموسوعة مستواه الأعلى من التجريد النقدي في معرفة الإسلام وحضارته. ولكنها ترتكز على مسلماتٍ خطيرة، أدناها أنَّ الإسلامَ “مُصطَرفٌ” عن الحضارات التي جايَلَته. وستظل حضارة الإسلام، رغم كل شيء، منطوية على أسرارٍ، لا يدركها العقلُ الوضعي. ..