أبو لهب: هو عبد العزى بن عبد المطلب، من صناديد الكفر بمكة، ومن أشد الناس تكذيباً وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كانت امرأته من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه، فلا عجب أن نزل فيهم قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}(سورة المسد).
لقد تعدَّدت صورُ الإيذاء التي قام بها أبو لهب مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت عداوته مبكِّرةً منذ إعلان النبي صلى الله عليه وسلم الدَّعوة والجهر بها، وإمعاناً في إيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمر ابنَيْه عُتبة وعُتَيبة بتطليق ابنتَيْ النبي صلى الله عليه وسلم ـ رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما ـ فقاما بتطليقيهما، روى الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن سعد في الطبقات، عن قتادة رضي الله عنه قال: “تزوج أمَّ كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبةُ بن عبد العزى بن أبي لهب، فلم يبن بها حتى بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت رقية ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت (زوجة) عتبة أخي عتيبة، فلما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} قال أبو لهب لابنيه عتيبة وعتبة: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد!”، وقال ابن عبد البر: “وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وكانت أختها أم كلثوم تحت عتبة بن أبي لهب، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}: قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد، وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما”.
وقد أخذ الله عز وجل أبا لهب بمكة، إذ أصابه مرض خبيث، يقال له مرض العدسة، وكان ذلك بعد هزيمة المشركين في غزوة بدر، فجمع الله عليه البلاء والعذاب النفسي والبدني، فمات شر ميتة. وقصة مرض وموت أبي لهب رواها الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكنت قد أسلمْتُ، وأسلمَتْ أم الفضل، وأسلم العباس، وكان يكتم إسلامه مخافة قومه، وكان أبو لهب تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام، وكان له عليه دَيْن، فقال له: اكفني من هذا الغزو، وأترك لك ما عليك، ففعل. فلما جاء الخبر، وكبتَ الله أبا لهب، وكنت رجلاً ضعيفاً أنحتُ هذه الأقداح في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت أقداحي في الحجرة، وعندي أم الفضل، إذ الفاسق أبو لهب يجر رجليه، أراه قال: حتى جلس عند طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث، فقال أبو لهب: هلمَّ إلي يا ابن أخي، فجاء أبو سفيان حتى جلس عنده، فجاء الناس فقاموا عليهما، فقال: يا ابن أخي، كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء، والله ما هو إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله ما لمتُ الناس، قال: ولِمَ؟ فقال: رأيت رجالاً بيضاً على خيل بُلق، لا والله ما تُليق (تمسك) شيئاً، ولا يقوم لها شيء، قال: فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فلطم وجهي، وثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض حتى نزل عليَّ، وقامت أم الفضل، فاحتجزت، وأخذت عموداً من عمد الحجرة، فضربته به، ففلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: أي عدو الله، استضعفتَه أنْ رأيت سيده (العباس) غائباً عنه! فقام ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى ضربه (أصابه) الله بالعدسة (بثرة تخرج في البدن كالطاعون، وقلما ينجو صاحبها) فقَتَلَتْه، فتركه ابناه يومين أو ثلاثة ما يدفنانه، حتى أنْتن، فقال رجل من قريش لابنيه: ألا تستحييان أن أباكما قد أنتن في بيته؟! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتقي الطاعون، فقال رجل: انطلقا فأنا معكما، قال: فوالله ما غسَّلاه إلا قذفاً بالماء من بعيد، ثم احتملوه، فقذفوه في أعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة).
وقال الطبري في تاريخه: “أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تُعْدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثاً لا تقرب جنازته، ولا يُحاوَل دفنه، فلما خافوا السُبَّة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه”.
أولاد أبي لهب :
في كتاب “ذخائر العقبى في مناقب ذوى القربى”: “(من أولاد الأعمام أولاد أبى لهب): وجملتهم أربعة: عتبة، ومعتب، ودرًة لهم صحبة (مع النبي صلى الله عليه وسلم)، وعتيبة قتله الأسد كافراً.. عتبة ومعتب أسلما يوم الفتح، وكانا قد هربا فبعث العباس إليهما ودعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدا معه حنيناً والطائف، وفقئت عين معتب يوم حنين.. درّة بنت أبى لهب: أسلمت وكانت عند الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فولدت له عقبة والوليد وأبا مسلم، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم.. وقد تقدم في أول الكتاب في فصل القرابة عن أبى هريرة أن سبيعة بنت أبى لهب شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أذى الناس لها وقولهم: بنت حَطَب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لها، ولعلها هذه وذاك (درة وسبيعة) لقب لها إذ لم يذكر أبو عمر ولا غيره في أولاده غير هؤلاء”. وفي كتاب “بهجة المحافل وبغية الأماثل”: “ومن أولاد أبى لهب: عتبة ومعتب ثبتا مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرّة صحابية أيضا، وأما عتيبة فقتله الأسد بالزوراء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم”.
ابنة أبي لهب قيل اسمها: درة، وقيل اسمها: سبيعة، قال أبو نعيم: “الصواب درة”، وقال ابن حجر: “يحتمل أن يكون لها اسمان، أو أحدهما لقب”.
معجزة نبوية في مقتل عتيبة بن أبي لهب:
عتيبة مات كافراً، وكان في موته معجزة وعبرة كما حدث مع أبيه، فقد روى أبو نعيم في الدلائل عن عثمان بن عروة بن الزبير رضي الله عنه عن رجال من أهل بيته قالوا: “كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتيبة بن أبي لهب فطلقها، فلما أراد الخروج إلى الشام قال: لآتين محمداً فأوذينه في ربه، قال: فأتى فقال: يا محمد هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، ثم تفل في وجهه (إلا أنَّ البزاق لَم يقع عليه)، ثم ردَّ عليه ابنته (طلقها)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال: وأبو طالب حاضر فوجم عنها وقال: ما أغناك عن دعوة ابن أخي فرجع, فأخبره بذلك، وخرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم الراهب من الدير, فقال لهم: هذه أرض مُسْبِعة (فيها أسود)، فقال أبو لهب: يا معشر قريش أعينونا هذه الليلة فإني أخاف عليه دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم ففرشوا لعتيبة عليها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه بيديه ضربة فأخذه فخدشه، فقال: قتلني، ومات مكانه”.
وفي رواية البيهقي في الدلائل: “فبلغ ذلك أبا لهب فقال: أَلَمْ أَقَلْ لَكُم إِنِّي أخاف عليه دَعْوَة مُحَمَّد”. قال القاسمي في محاسن التأويل: “ومنه يُعلَم أن الأسد يُطلقَ عليه كلب، ولما أُضيف إلى الله، كأنه أعظم أفراده”.
إن أحداث التاريخ منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف والأحداث التي تبين العاقبة السيئة لمن استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم، كما حدث مع أبي لهب وابنه عتيبة، وطريقة وقصة موتهما، وما فيها من معجزة نبوية، وعبرة للمكذبين المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر ماضٍ إلى قيام الساعة، قال ابن تيمية: “والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين (بالنبي صلى الله عليه وسلم) معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير”، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ}(الحجر:95). قال السعدي: “وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة”.