“إن كان قال فقد صدق”، كلمة قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر كفار قريش عن رحلة الإسراء والمعراج فكذبوه، وهي تعبر بصورة واضحة عن منهج الصحابة رضوان الله عليهم مع كلام وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه عندهم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم 4:3). ولم يتوقف الصحابة رضوان الله عليهم عند حدود تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وفقط، بل كانوا يتبعون التصديق بسرعة الاستجابة والعمل بما أمرهم به.
وقد أمرنا الله عز وجل بالاستجابة لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال:24)، قال السعدي: “يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه”. وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7). قال ابن كثير: “أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر”.
والسيرة النبوية زاخرة بالكثير من الصور والأمثلة الدالة على سرعة استجابة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالامتثال والطاعة، وفي نهيه بالاجتناب والبعد، ومن ذلك:
ـ لا تسأل أحداً شيئا :
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهدٍ ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلام نبايعك؟ قال صلى الله عليه وسلم: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئا. قال عوف: فلقد رأيتُ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه) رواه مسلم. قال القرطبي: “وأخْذه صلى الله عليه وسلم على أصحابه في البيعة أن لا يسألوا أحداً شيئا، حمْلٌ لهم على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل مِنَن الخَلق، وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفوس، ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال حتى فيما لا تلحق فيه مِنَّة، طردًا للباب وحسْماً للذرائع”.
ـ فما زالت طعمتي بعد :
فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت طعمتي بعد) رواه البخاري. قال ابن حجر: “أي لزمت ذلك وصار عادة لي .. وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر، ومواظبته على مقتضاه”.
ـ لا أَضرِب مملوكاً بعده أبدا :
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنتُ أَضرِب غلامًا لي بالسوط، فسمعتُ صوتًا مِن خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت مِن الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فألقيتُ السَّوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أَضرِب مملوكًا بعده أبدا) رواه مسلم. أي: بعد هذا القول الذي سمعه وذلك امتثالا وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
ـ فما سَببتُ بعدَهُ حُرّاً ولا عَبْدا :
عن أبى جُرَيّ جابر بن سليم الهجيمى رضي الله عنه قال: (رأيتُ رجلًا يَصدرُ النَّاسُ عن رأيه (يقبلون قوله ورأيه)، لا يقول شيئًا إلَّا صدروا عنه (أخذوا منه كل ما حكم به)، قلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ: عليك السَّلام يا رسول اللَّه، مرَّتين، قال: لا تَقُلْ: عليكَ السّلام، فإنَّ عليك السلام تحيَّة الميِّت، قل: السَّلام عليك، قال: قلتُ: أنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا رسولُ اللَّه الَّذي (وهو الله عز وجل) إذا أصابك ضرٌّ فدَعوتَه كشفَه عنك، وإن أصابك عامُ سَنةٍ (جدب وقحط) فدعوتَه، أنبتها لك، وإذا كنتَ بأرضٍ قَفراءَ أو فلاةٍ فضلَّت راحلتُك فدعوتَه، ردَّها عليك، قلتُ: اعهَد إليَّ (أوصني)، قال: لا تَسبَّنَّ أحداً، قال: فما سَببتُ بعدَه حُرًّا ولا عبدًا، ولا بعيرًا ولا شاة) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال المباركفوري: “قال الخطابي: هذا يُوهِم أن السُنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المقبرة فقال السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، فقدَّم الدعاء على اسم المدعو له، كهو في تحية الأحياء، وإنما كان ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة منهم في تحية الأموات، إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور في أشعارهم.. والسُنَّة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات”. وفي دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: (فما سببْتُ بعده حرّاً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة): أشار به إلى كمال الامتثال (لأمر النبي صلى الله عليه وسلم)، وعدم المشاحنة في شيء من ذلك”.
ـ الاستجابة حتى في الجلوس ، وفي عدم الالتفات :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، قال: اجلِسوا، فسَمِع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعالَ يا عبد الله بنَ مسعود) رواه أبو داود وصححه الألباني، قال ابن حجر: “(فجلس على باب المسجد) مبادرة إلى الامتثال (الطاعة)”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأُعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يَفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذٍ، قال: فتساوَرتُ لها، رجاء أن أُدعَى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: امشِ ولا تَلتفِت حتى يَفتح الله عليك، فسار عليٌّ شيئًا ثم وقَف ولم يَلتفِت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ فقال:قاتِلهم حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منَعوا منكَ دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحِسابُهم على الله) رواه مسلم. قال القاضي عياض: “(وقف ولم يلتفت) فيه: التزام أوامره صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظاهرها ما أمكن ولم يصرفها عنه صارف”.
ـ لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرّجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. قال النووي: “فيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة”.
المسلم يعرف حقيقة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالتسليم لأمره، وطاعته في كل ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، دون ريْبٍ أو تردد أو حرج، ولو كان أمره أو نهيه مخالفاً للنفس والعقل، والطبْع والعادة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36)، قال السعدي في تفسيره: “أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله”. وقال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: “رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره”.